الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فكان في ذلك تصوير لحزبين متقابلين متناقضين حزب الرحمن، وحزب الشيطان، وهي صورة المجتمع في المدينة آنذاك.ثم تأتي إلى مقارنة أخرى بين نتائج هذين الحزبين ومنها هما وعدم استوائهما، وفي ذلك تقرير المصير: {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون} [الحشر: 20].وهذه أخطر قضية في كل أمة أي تقرير مصيرها، ثم بيان حقيقة تأثير القرآن وفعاليته في المخلوقات، ولو كانت جبلًا أشم أو حجرًا أصم لو أنزل عليه لرأيته خاشعًا متصدعًا من خية الله، فإذا بها قد اشتملت على موضوع الخلق والخالق والأمة اولرسالة والبدء والنهاية وصراع الحق مع الباطل، والكفر والإيمان والنفوس في الشح والإحسان، وكلها مواقف عملية ومناهج واقعية وأمثلة بيانية {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21].فإذا ما توجه الفكر في هذا العرض، وتنقل من موقف إلى موقف، وتأمل صنع الله وقدرته وآياته، نطق بتسبيحه، وعلم أنه سبحانه هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، علم ما سيكون عليه العالم قبل وجوده، فأوجده على مقتضى علمه به، وسيره على النحو الذي أوجده عليه، علم خذلان المنافقين لليهود قبل أن يحرضهم، فكان كما علم سبحانه وحذر من مشابهتهم، وعلم أنه لو أنزل القرآن على جبل ماذا يكون حاله، فحص العباد بالأخذ به، ولعلمه هذا بالغيب والشهادة، كان حقًا هو الله وحده.ثم مرة أخرى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23]، برهان آخر في صورة متعددة، وبراهين متنوعة على وحدانيته سبحانه الملك القدّوس، الملك المهيمن على ملكه القدّوس المسلم من كل نقص، المسيطر على ما في ملكه كله لا يعزب عنه مثقال ذرة. كما قال تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك: 1].وهنا وقفة لتأمل اجتماع تلك الصفات معًا عالم الغيب والشهادة، والملك القدوس والسلام المهيمن، فنجدها مترابطة متلازمة لأن العالم إذا لم يملك التصرف ولم يهيمن على شيء فلا فعالية لعلمه والملك الذي لا يعلم ولم يتقدس عن النقص لا هيمنة له على ملكه.فإذا اجتمع كل ذلك وتلك الصفات: العلم والملك والتقديس والهيمنة، حصل الكمال والجلال، ولا يكون ذلك إلا لله وحده العزيز الجبار المتكبر، ولا يشركه احد في شيء من ذلك سبحانه وتعالى عما يشركون، هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى.وهنا، في نهاية هذا السياق يقف المؤمن وقفة إجلال وتعظيم لله.فالخالق هو المقدر قبل الإيجاد.والبارئ الموجد من العدم على مقتضى الخلق والتقدير، وليس كل من قدر شيئًا أوجده إلا الله.والمصور المشكل لكل موجود على الصورة التي أوجده عليها، ولم يفرد كل فرد من موجوداته على صورة تختص به إلا الله سبحانه وتعالى، كما هو موجود في خلق الله للإنسان والحيوان والنبات كل في صورة تخصه.ووبالرجوع مرة أخرى إلى أول السياق، فإن الخلق والتقدير لابد أن يكون بموجب العلم سواء كان في الحاضر المشاهد أو للمستقبل الغائب، وهذا لا يكون إلا لله وحده عالم الغيب والشهادة، فكان تقديره بموجب علمه والملك القدوس القادر على التصرف في ملكه يوجد ما يقدره.والمهيمن: يسير ما يوجد على مقتضى ما يقدره.والذي قدر فهدى، العزيز الذي لا يقهر الجبال الذي يقهر كل شيء لغرادته، وتقديره، ويخضعه ليهمنته.المتكبر الذي لا يتطاول لكبريائه مخلوق، وأكبر من أن يشاركه غيره في صفاته، تكبر عن أن يماثله غيره أو يشاركه أحد فيما اختص به سبحان الله عما يشركون.وفي نهاية السياق إقامة البرهان الملزم وانتزاع الاعتراف والتسليم، {هُوَ الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] وهو أعظم دليل كما تقدم، وهو كما قال: دليل الإلزام، لأن الخلق لابد لهم من خالق، وهذه قضية منطقية مسلمة، وهي أن كل موجود لابد له من موجد، وقد ألزمهم في قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} [الطور: 35]، وهذا بالسير، والتقسيم أن يقال: إما خلقوا من غير شيء خلقهم أي من العدم، ومعلوم أن العدم لا يخلق شيئًا لأن فاقد الشيء لا يعطيه، والعدم ليس أمرًا وجوديًا حتى يمكن له أن يوجد موجودًا.أم هم الخالقون؟وهم أيضًا يعلمون من أنفسهم أنهم لم يخلقوا أنفسهم، فيبقى المخلوق لابد له من خالق، وهو الله تعالى: {الخالق البارئ}.ولو قيل من جانب المنكر: إن ما نشاهده من وجود الموجود كالإنسان والحيوان والنبات يتوقف وجوده على أسباب نشاهدها، كالأوبين للحيوان وكالحرث والسقي للنبات إلخ، فجاء قوله تعالى: {المصور}، فهل الأبوان يملكان تصوير الجنين من جنس الذّكورة أوالأنوثة أو من جنس اللّون والطّول والقصر والشبه؟الجواب: لا وكلا، بل ذلك لله وحده، هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، كما قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}[الشورى: 49- 50].وكذلك في النبات، توضع الحبة وتسقى بالماء، فالتربة واحدة، والماء واحد، فمن الذي يصور شكل النبات هذا نجم على وجه الأرض، وذاك نبت على ساق، وهذا كرم على عرش، وذاك نخل باسقات، فإذا طلعت الثمرة في أول طورها فمن الذي يصورها في شكلها، من استداردتها أو استطالتها أو غير ذلك، وإذا تطورت إلى النضج فمن الذي صورها في لونها الأحمر أو الأصفر أو الأسود أو الأخضر أو الأبيض؟ هل هي التربة أو الماء أو هما معًا، لا وكلا. إنه هو الله الخالق البارئ المصور، سبحانه له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والأرض طوعًا وكرهًا.وهان عود على بدء يختم السورة بما بدأت به مع بيان موجباته واستحقاقه، وآيات وحدانيته، سبحانه لا إله إلا هو العزيز الحكيم. اهـ.
|